ومن حقوقهم أيضا تقديمهم في الأمور العظيمة، وتصديرهم في المسائل ذات الشأن: ففي قصة نزول قوله تعالى: { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ(61)}، (آل عمران)، روى مسلم عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَمَرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ سَعْدًا فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسُبَّ أَبَا التُّرَابِ؟ فَقَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتُ ثَلَاثًا قَالَهُنَّ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَنْ أَسُبَّهُ، لَأَنْ تَكُونَ لِي وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ خَلَّفَهُ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خَلَّفْتَنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي.) وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ: (لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) قَالَ: فَتَطَاوَلْنَا لَهَا فَقَالَ: (ادْعُوا لِي عَلِيًّا) فَأُتِيَ بِهِ أَرْمَدَ فَبَصَقَ فِي عَيْنِهِ وَدَفَعَ الرَّايَةَ إِلَيْهِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: { فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ }دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَقَالَ: ( اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي). ( وعادة العرب عند المباهلة أن يخرج الرجل بأحب الناس وأقربهم إليه للمباهلة، فإخراجهم تشريف لهم وبيان لمنزلتهم عند النبي صلى الله عليه وسلم، ومكانتهم وقرم منه، وبالتالي منزلتهم الرفيعة ومكانتهم العظيمة عند ربهم
عز وجل) .
وفي أمر الاستسقاء، روى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا. قَالَ: فَيُسْقَوْنَ" وعند ابن حبان أن العباس قال: "اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد تَوَجَّهَ القومُ بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث، فأرخت السماء مثل الحبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس".
فهذا عمر رضي الله عنه ومعه عدد من العشرة المبشرين بالجنة وبقية الصحابة استسقوا بالعباس، وقد فهم العباس ما قصدوه من هذا الاستسقاء، وهو التوجه به لمكانه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يستسقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم مع بقاء جسده الشريف، وكذلك لم يستسقوا بقبر حمزة رضي الله عنه وهو بلا شك أفضل من العباس، فكان ذلك إجماعا منهم على هذا الاستسقاء بمن هو ذو مكان من النبي صلى الله عليه وسلم من الأحياء، دون الاستسقاء بالأموات. قال ابن تيمية: "وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا نَزَلَتْ بِهِمْ الشَّدَائِدُ - كَحَالِهِمْ فِي الْجَدْبِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَعِنْدَ الْقِتَالِ وَالِاسْتِنْصَارِ - يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَسْتَغِيثُونَهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُونَ الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ : اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا تَوَسَّلْنَا إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ . فَتَوَسَّلُوا بِالْعَبَّاسِ كَمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، وَهَكَذَا تَوَسَّلُوا بِدُعَاءِ الْعَبَّاسِ وَشَفَاعَتِهِ".مجموع الفتاوى ج 27، وقال ابن تيمية أيضا: (ثُمَّ لَمَّا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ قَالَ : " اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا " فَيُسْقَوْنَ . وَهَذَا دُعَاءٌ أَقَرَّهُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مَعَ شُهْرَتِهِ وَهُوَ مِنْ أَظْهَرَ الإجماعات الإقرارية).الفتاوى ج1
وهم جميعا خير من العباس دينيا، و وإنما فعلوا ذلك لمكانه من النبي صلى الله عليه وسلم كما قال هو رضي الله عنه، ولا يقال إن عليا كان موجودا وهو خير من العباس، وهو من آل البيت، فإن العباس أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالعباس عم وعلي ابن عم. وإنما فعلوا ذلك تقربا إلى الله عز وجل بالمودة في القربى، وأخذا بهذا الثقل.
((يقول العلامة شبلي النعماني في كتاب ( الفاروق) حول عنوان ( رعاية الحقوق والآداب بين الآل والأصحاب): إن عمر رضي الله عنه لم يكن يبُتُّ برأي في مهمات الأمور قبل أن يستشير عليا رضي الله عنه الذي كان يشير عليه بغاية من النصح ودافع من الإخلاص…
كان علي رضي الله عنه المستشار الأول لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان عمر يستشيره في الأمور الكبيرة والصغيرة ، وقد استشاره حين فتح المسلمون بيت المقدس، وحين فتحت المدائن, وعندما أراد عمر التوجه إلى نهاوند وقتال الفرس ، وحين أراد ان يخرج لقتال الروم ، وفي موضوع التقويم الهجري، وغير ذلك من الأمور . وكان علي رضي الله عنه طيلة حياة عمر مستشارا ناصحا لعمر خائفا عليه، وكان عمر يحب عليّا، وكانت بينهما مودة ومحبة وثقة متبادلة، ومع ذلك يأبى الناس إلا أن يزوروا التاريخ، ويقصوا بعض الروايات التي تناسب أمزجتهم ومشاربهم ، ليصوروا تلك فترة الخلفاء الراشدين عبارة عن أن كل واحد منهما كان يتربص بالآخر الدوائر لينقض عليه، وكل أمورهم كانت تجري من وراء الكواليس.
يقول الدكتور البوطي إن أبرز ما يلاحظه المتأمل في خلافة عمر ذلك التعاون المتميز الصافي بين عمر وعلي رضي الله عنهما فقد كانا علي هو المستشار الأول لعمر في سائر القضايا والمشكلات وما اقترح علي على عمر رأيا إلا واتجه عمر إلى تنفيذه عن قناعة، وحسبك في ذلك قوله: لولا عليّ لهلك عمر.
أما علي فقد كان يمحضه النصح في كل شؤونه وأحواله، وقد رأيت أن عمر استشاره أن يذهب بنفسه على رأس جيش لقتال الفرس، فنصحه نصيحة المحب له الغيور عليه والضنين به أن لا يذهب، وأن يدير رحى الحرب بمن دونه من العرب وهو في مكانه، وحذره من أنه إذا ذهب فلسوف ينشأ وراءه من الثغرات ما هو أخطر من العدو الذي سيواجهه)) .
وأخرج الخطيب أن أحمد بن حنبل رضي الله عنه كان إذا جاءه شيخ أو حدث من قريش أو الأشراف قدمهم بين يديه وخرج وراءهم.